العدالة المؤجلة.. كيف أثرت الثغرات القانونية في مسار المصالحة بنيبال؟
العدالة المؤجلة.. كيف أثرت الثغرات القانونية في مسار المصالحة بنيبال؟
في أودية نيبال المترامية، لا تزال أصداء الحرب الأهلية التي دارت رحاها بين عامي 1996 و2006 تتردد بقوة، ليس فقط في الذاكرة الجمعية للشعب، بل في جراح حية لم تندمل بعد، هذه الجراح ليست ناتجة فقط عن فقدان الأرواح، بل عن جرائم العنف الجنسي التي ارتكبت في حق الآلاف من النساء والرجال والأطفال.
بعد مرور ما يقرب من عقدين على اتفاقية السلام الشامل، وفشل عملية "العدالة الانتقالية" في تحقيق أبسط أشكال العدالة لهؤلاء الناجين، أصبحت القضية اليوم تتصدر أجندة المنظمات الحقوقية الدولية والأممية التي تصف الوضع بأنه "إخفاق منهجي" في معالجة حقوق الإنسان.
العدالة الانتقالية، التي كان يُفترض أن تكون جسرًا نحو المستقبل، تحولت في نيبال إلى متاهة قانونية وبيروقراطية، أقصت ضحايا العنف الجنسي ودفعتهم إلى دائرة من النسيان والعزلة، في هذا التقرير تتعمق "جسور بوست" في أسباب هذا الفشل، مستعرضةً تقارير المنظمات الحقوقية، ومحللةً الثغرات القانونية، ومسلطةً الضوء على الأصوات المنسية للناجين الذين يطالبون بالعدالة والاعتراف بآلامهم.
إخفاق منهجي
في 17 يوليو 2025، قدمت مجموعة من المنظمات الحقوقية المرموقة، هي لجنة الحقوقيين الدولية (ICJ)، ومنتدى المناصرة - نيبال (AF)، والصندوق العالمي للناجين (GSF)، مذكرة مشتركة إلى مجلس حقوق الإنسان التابع للأمم المتحدة، والمذكرة لم تكن مجرد نقد عابر، بل كانت وثيقة مُفصلة تُسلط الضوء على "الثغرات المنهجية" في جهود نيبال لإنشاء إطار للعدالة الانتقالية.
وتُبرز المذكرة عدة مخاوف جوهرية، منها:
قصور الإطار القانوني: على الرغم من إقرار قانون لجنة الحقيقة والمصالحة في عام 2014 وتعديلاته اللاحقة، لا يزال القانون يفتقر إلى تعريفات واضحة وشاملة للعنف الجنسي المرتبط بالنزاعات، فعلى سبيل المثال: وجود كلمة "خطِر" في تعريف العنف الجنسي يُشكّل معوّقاً قانونيًا، ويُقصي العديد من أشكال العنف الأخرى التي تُعدّ جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية.
غياب النهج المُركّز على الضحايا: لجان العدالة الانتقالية التي شُكلت بموجب هذا القانون تفتقر إلى المصداقية والاستقلالية، الأهم من ذلك، أنها لا تضمن مشاركة فعالة للضحايا، وخاصةً الناجين من العنف الجنسي، هذه اللجان التي كان من المفترض أن تُعيد لهم أصواتهم، أصبحت يُنظر إليها وكأنها أدوات سياسية، ما أفقدهم الثقة في العملية برمتها.
التمييز في التعويضات: يُعاني الناجون من العنف الجنسي صعوبات هائلة في الحصول على التعويضات المؤقتة، الإجراءات البيروقراطية المُعقدة، وغياب السرية، والوصمة الاجتماعية المرتبطة بهذه الجرائم تُثني الناجين عن الإبلاغ أو السعي للحصول على أي شكل من أشكال الدعم.
دارت الحرب الأهلية في نيبال بين عامي 1996 و2006، وراح ضحيتها الآلاف من الأرواح. لكن ما لم يُسلط عليه الضوء بشكل كافٍ هو العنف الجنسي الذي استُخدم أداة حرب، ووثقت التقارير الحقوقية حالات اغتصاب، وتعذيب جنسي، وزواج قسري، ارتكبها كل من القوات الحكومية والمقاتلين الماويين.
الضحايا لم يكونوا فقط من النساء، بل شملوا أيضًا الرجال والفتيان وأفراد الأقليات الجنسية والجندرية، كانت هذه الجرائم تُستخدم للترهيب والعقاب، وتُرتكب في مراكز الاحتجاز والثكنات العسكرية وفي المناطق التي يسيطر عليها الماويون.
لماذا لم تُعالج هذه الجرائم؟
بحسب تقارير حقوقية، لما تعالج تلك الجرائم بسبب الوصمة الاجتماعية والخوف، ففي مجتمع تقليدي مثل نيبال، تُعتبر جرائم العنف الجنسي وصمة عار، ما يُثني الضحايا عن الإبلاغ عنها، بجانب الحواجز القانونية حيث كان هناك قانون تقادم سابق يسمح بـ 35 يومًا فقط للإبلاغ عن الجريمة، وهو ما يجعل من المستحيل -تقريبًا- على الضحايا الذين مرّت سنوات على جرائمهم، الحصول على أي شكل من أشكال العدالة، إضافة إلى الإفلات من العقاب حيث لم يُحاسب أي من مرتكبي هذه الجرائم حتى بعد تشكيل لجان الحقيقة والمصالحة.
وفي ضوء هذا الفشل، قدمت المنظمات الحقوقية توصيات واضحة ومُفصلة لحكومة نيبال، تهدف إلى إعادة عملية العدالة الانتقالية إلى مسارها الصحيح.
تعديل القانون: تُطالب المنظمات بتعديل قانون لجنة الحقيقة والمصالحة ليتوافق مع المعايير الدولية لحقوق الإنسان، ويُدرج جرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية في اختصاصات اللجان.
مشاركة الضحايا: يجب أن تُضمن مشاركة النساء والناجين من العنف الجنسي بشكل فعال على جميع مستويات العملية، بما في ذلك التعيينات وصنع القرار.
تعويضات شاملة: يجب اعتماد سياسة تعويضات شاملة تُعالج الاحتياجات الخاصة للناجين، وتُقدّم لهم الرعاية الطبية، والدعم النفسي والاجتماعي، والمساعدة القانونية، ودعم سبل العيش.
حماية الناجين: يجب ضمان السرية والأمان للناجين في جميع جوانب عملية العدالة الانتقالية، بدعم من حماية قانونية ومؤسسية واضحة.
التصديق على الصكوك الدولية: تحث نيبال على التصديق على صكوك دولية مهمة مثل نظام روما الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية، ما يُعزز التزامها بالعدالة الدولية.
لجان غير فعالة وأمل يتبدد
لقد أُنشئت لجنتا العدالة الانتقالية بموجب قانون عام 2014، وهما: لجنة الحقيقة والمصالحة، ولجنة التحقيق في حالات الاختفاء القسري، ولكن بدلاً من أن تكونا من أدوات الشفاء والعدالة، أصبحتا تجسيدًا لفشل العملية برمتها، وتلقت اللجنتان أكثر من 66000 شكوى، لكنهما لم تحلا أي قضية تتعلق بالعنف الجنسي المرتبط بالنزاعات.
وشهدت عملية تعيين أعضاء اللجان جدلاً واسعًا، فقد انتقدت جماعات الضحايا التعيينات الأخيرة في مايو 2025 لافتقارها إلى الشفافية والشمولية، ما أثار إدانة واسعة ودعوات لإعادة العملية من جديد، وحتى الخطط الوطنية للحكومة التي ركزت على المرأة والسلام والأمن، فشلت في معالجة العنف الجنسي المرتبط بالنزاعات؛ بسبب نقص التمويل والدعم المؤسسي.
وتؤكد المنظمات الحقوقية أنه يجب على حكومة نيبال، والمجتمع الدولي، أن يدركوا أن العدالة الانتقالية لا يمكن أن تنجح إلا إذا كانت شاملة، وتضع الضحايا في صميمها، لافتة أنها مسؤولية أخلاقية وسياسية لضمان أن تُسمع أصوات الناجين، وأن تُعالج جراحهم، وأن يُحاسب المذنبون.